فصل: قال عبد الكريم الخطيب في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال الفراء: يقول: أن تدوما قائمتين بأمره {ثُمَّ إذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مّنَ الأرض إذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ} أي ثم بعد موتكم ومصيركم في القبور، إذا دعاكم دعوة واحدة فاجأتم الخروج منها بسرعة، من غير تلبث ولا توقف، كما يجيب المدعو المطيع دعوة الداعي المطاع.
و{من الأرض} متعلق بدعا، أي دعاكم من الأرض التي أنتم فيها، كما يقال: دعوته من أسفل الوادي فطلع إليّ، أو متعلق بمحذوف هو صفة لدعوة، أو متعلق بمحذوف يدلّ عليه تخرجون، أي خرجتم من الأرض، ولا يجوز أن يتعلق ب {تخرجون} لأن ما بعد إذ لا يعمل فيما قبلها، وهذه الدعوة هي نفخة إسرافيل الآخرة في الصور على ما تقدّم بيانه، وقد أجمع القراء على فتح التاء في {تخرجون} هنا، وغلط من قال إنه قرىء هنا بضمها على البناء للمفعول، وإنما قرىء بضمها في الأعراف.
{وَلَهُ مَن في السموات والأرض} من جميع المخلوقات ملكًا وتصرّفًا وخلقًا، ليس لغيره في ذلك شيء {كُلٌّ لَّهُ قانتون} أي مطيعون طاعة انقياد.
وقيل: مقرّون بالعبودية وقيل: مصلون وقيل: قائمون يوم القيامة كقوله: {يَوْمَ يَقُومُ الناس لرَبّ العالمين} [المطففين: 6] أي للحساب وقيل: بالشهادة أنهم عباده وقيل: مخلصون {وَهُوَ الذي يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعيدُهُ} بعد الموت فيحييه الحياة الدائمة {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه} أي هين عليه لا يستصعبه، أو أهون عليه بالنسبة إلى قدرتكم، وعلى ما يقوله بعضكم لبعض، وإلاّ فلا شيء في قدرته بعضه أهون من بعض، بل كل الأشياء مستوية يوجدها بقوله: كن فتكون.
قال أبو عبيد: من جعل أهون عبارة عن تفضيل شيء على شيء، فقوله مردود بقوله: {وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسيرًا} [النساء: 30]، وبقوله: {وَلاَ يَؤُودُهُ حفْظُهُمَا} [البقرة: 255] والعرب تحمل أفعل على فاعل كثيرًا، كما في قول الفرزدق:
إن الذي سمك السماء بنى لنا ** بيتًا دعائمه أعزّ وأطول

أي عزيزة طويلة، وأنشد أحمد بن يحيى ثعلب على ذلك:
تمنى رجال أن أموت وإن أمت ** فتلك سبيل لست فيها بأوحد

أي لست بواحد، ومثله قول الآخر:
لعمرك إن الزبرقان لباذل ** لمعروفه عند السنين وأفضل

أي وفاضل، وقرأ عبد الله بن مسعود: {وهو عليه هين}.
وقال مجاهد وعكرمة والضحاك: إن الإعادة أهون عليه، أي على الله من البداية، أي أيسر، وإن كان جميعه هينًا.
وقيل: المراد أن الإعادة فيما بين الخلق أهون من البداية، وقيل: الضمير في: {عليه} للخلق، أي وهو أهون على الخلق؛ لأنه يصاح بهم صيحة واحدة فيقومون، ويقال لهم: كونوا فيكونون، فلذلك أهون عليهم من أن يكونوا نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى آخر النشأة {وَلَهُ المثل الأعلى} قال الخليل: المثل الصفة، أي وله الوصف الأعلى {في السموات والأرض} كما قال: {مَّثَلُ الجنة التي وُعدَ المتقون} [الرعد: 35] أي صفتها.
وقال مجاهد: المثل الأعلى قول: لا إله إلاّ الله، وبه قال قتادة.
وقال الزجاج: {وَلَهُ المثل الأعلى في السموات والأرض} أي قوله: {وهو أهون عليه} قد ضربه لكم مثلًا فيما يصعب ويسهل.
وقيل: المثل الأعلى هو أنه ليس كمثله شيء، وقيل: هو أن ما أراده كان بقول: كن، و{في السماوات والأرض} متعلق بمضمون الجملة المتقدّمة، والمعنى: أنه سبحانه عرف بالمثل الأعلى، ووصف به في السماوات والأرض، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من الأعلى، أو المثل، أو من الضمير في الأعلى {وَهُوَ العزيز} في ملكه، القادر الذي لا يغالب {الحكيم} في أقواله وأفعاله.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {يُبْلسُ} قال: يبتئس.
وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم: {يُبْلسُ} قال: يكتئب، وعنه: الإبلاس: الفضيحة.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {يُحْبَرُونَ} قال: يكرمون.
وأخرج الديلمي عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم القيامة قال الله: أين الذين كانوا ينزّهون أسماعهم، وأبصارهم عن مزامير الشيطان؟ ميزوهم، فيميزون في كثب المسك والعنبر؛ ثم يقول للملائكة: أسمعوهم من تسبيحي وتحميدي وتهليلي، قال: فيسبحون بأصوات لم يسمع السامعون بمثلها قط» وأخرج الدينوري في المجالسة عن مجاهد قال: ينادي مناد يوم القيامة، فذكر نحوه، ولم يسمّ من رواه له عن رسول الله.
وأخرج ابن أبي الدنيا في ذمّ الملاهي، والأصبهاني في الترغيب عن محمد بن المنكدر نحوه.
وأخرج ابن أبي الدنيا والضياء المقدسي كلاهما في صفة الجنة، قال السيوطي: بسند صحيح، عن ابن عباس قال: «في الجنة شجرة على ساق قدر ما يسير الراكب المجدّ في ظلها مائة عام، فيخرج أهل الجنة أهل الغرف، وغيرهم فيتحدّثون في ظلها، فيشتهي بعضهم ويذكر لهو الدنيا، فيرسل الله ريحًا من الجنة فتحرّك تلك الشجرة بكل لهو كان في الدنيا» وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أبي هريرة مرفوعًا نحوه.
وأخرج الفريابي وابن مردويه عن ابن عباس قال: «كل تسبيح في القرآن فهو صلاة» وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني، والحاكم وصححه عن أبي رزين قال: جاء نافع بن الأزرق إلى ابن عباس، فقال: هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ قال: نعم، فقرأ: {فَسُبْحَانَ الله حينَ تُمْسُونَ} صلاة المغرب {وَحينَ تُصْبحُونَ} صلاة الصبح {وَعَشيًّا} صلاة العصر {وَحينَ تُظْهرُونَ} صلاة الظهر، وقرأ: {من بَعْد صلاة العشاء} [النور: 58].
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عنه قال: جمعت هذه الآية مواقيت الصلاة: {فَسُبْحَانَ الله حينَ تُمْسُونَ} قال: المغرب والعشاء {وَحينَ تُصْبحُونَ} الفجر {وَعَشيًّا} العصر {وَحينَ تُظْهرُونَ} الظهر.
وأخرج أحمد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن السني في عمل يوم وليلة، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في الدعوات عن معاذ بن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله الذي وفّى؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وأمسى: {سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيًا وحين تظهرون}» وفي إسناده ابن لهيعة.
وأخرج أبو داود والطبراني وابن السني وابن مردويه عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قال حين يصبح: {سبحان الله حينَ تُمْسُونَ وَحينَ تُصْبحُونَ وَلَهُ الحمد في السموات والأرض وَعَشيًّا وَحينَ تُظْهرُونَ يُخْرجُ الحي منَ الميت وَيُخْرجُ الميت منَ الحي وَيُحْيي الأرض بَعْدَ مَوْتهَا وَكَذَلكَ تُخْرَجُونَ} أدرك ما فاته في يومه، ومن قالها حين يمسي أدرك ما فاته في ليلته» وإسناده ضعيف.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {كُلٌّ لَّهُ قانتون} يقول: مطيعون: يعني: الحياة والنشور والموت وهم له عاصون فيما سوى ذلك من العبادة.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه} قال: أيسر.
وأخرج ابن الأنباري عنه أيضًا في قوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه} قال: الإعادة أهون على المخلوق، لأنه يقول له يوم القيامة: كن فيكون، وابتدأ الخلقة من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضًا في قوله: {وَلَهُ المثل الأعلى} يقول: ليس كمثله شيء. اهـ.

.قال عبد الكريم الخطيب في الآيات السابقة:

قوله تعالى: {وَمنْ آياته أَنْ خَلَقَكُمْ منْ تُرابٍ ثُمَّ إذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشرُونَ}.
هذه الآية معطوفة على الآية قبلها: {يُخْرجُ الْحَيَّ منَ الْمَيّت وَيُخْرجُ الْمَيّتَ منَ الْحَيّ}. فهذا من آيات اللّه. أي ومن آياته كذلك أن خلق الناس من تراب، ثم إذا هم بشر ينتشرون.
وقضية خلق الإنسان، كما جاء بها القرآن، تلتقى مع العقل، في كل طور من أطواره، صعودا، أو نزولا.
ففى القرآن الكريم عشرات من الصور التي خرج بها الإنسان إلى هذا العالم. وهذه الصور وإن اختلفت مظهرا، فإنها تلتقى جميعا في مضمونها ومحتواها.
فالعقل في أدنى مستوياته يلتقى مثلا مع قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْناكُمْ منْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوبًا وَقَبائلَ لتَعارَفُوا} (13: الحجرات) وتلك حقيقة لا يستعلى عليها العقل في أعلى منازله، ولا يستغنى عن الأخذ بها.
فإذا ترقى العقل شيئا كان له لقاء آخر مع قوله تعالى: {الَّذي خَلَقَكُمْ منْ نَفْسٍ واحدَةٍ وَخَلَقَ منْها زَوْجَها وَبَثَّ منْهُما رجالًا كَثيرًا وَنساءً} (1: النساء).
ثم ما يزال العقل يلتقى مع آيات اللّه، آية آية. فيجد في كل آية منها لونا جديدا، تزداد به الصورة وضوحا، وعمقا.
ومن هذه الآيات:
{أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ منْ ماءٍ مَهينٍ فَجَعَلْناهُ في قَرارٍ مَكينٍ} (20- 21 المرسلات).
{وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ منَ الْأَرْض نَباتًا} (17: نوح).
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإنْسانَ منْ سُلالَةٍ منْ طينٍ} (12: المؤمنون).
{خَلَقَ الْإنْسانَ منْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّار} (14: الرحمن).
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإنْسانَ منْ صَلْصالٍ منْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} (26: الحجر).
{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ منْ ماءٍ} (45: النور).
فهذه الآيات، وكثير غيرها مما جاء في خلق الإنسان، تضع العقل أمام قضايا، ومقررات، كلها تحدث عن خلق الإنسان، وبعضها واضح جلى، يعرف بأدنى نظر، وبعضها دقيق خفى، لا ينال إلا بنظر دقيق، وإدراك سليم، مع قدر كبير من العلم والمعرفة.
ومع هذا، فإن التقاء هذه الآيات في أي عقل مؤمن لا يحدث صداما بينها، ولا يدعو إلى انفصال في وحدتها، وذلك بحمل الخفي عليه منها، على الجلىّ، والمتشابه- عنده- على المحكم. ثم يبقى مع هذا للعقل- على امتداد الزمن- مكانه من الآيات الخفية، ينظر في وجهها، ويدور باحثا عن أسرارها. وفي كل يوم يجد العقل من هذه الآيات جديدا من العلم، ومزيدا من المعرفة، وكثيرا من الأسرار. وإذا التراب، والطين والصلصال، والحمأ المسنون، والماء، والنبات. وكل هذه المواد التي تحدث عنها القرآن في خلق آدم- هي العناصر التي شكلت هذا المخلوق العجيب، والتي أقام منها الخالق العظيم، هذا البناء، في أحسن تقويم.! وحتى ليجىء العلم الحديث متخاضعا بين يدى القرآن الكريم، مستسلما ومسلما لما ضمت عليه آيات اللّه من أسرار، لم ير هذا العلم بكل وسائله إلا لمحات منها، فيما قررته علوم الحياة من تلك الصلة الوثيقة التي تصل الإنسان بالأحياء، وتجعله حلقة من حلقات سلسلتها الممتدة، الضاربة في أعماق الطبيعة.
قوله تعالى: {وَمنْ آياته أَنْ خَلَقَ لَكُمْ منْ أَنْفُسكُمْ أَزْواجًا لتَسْكُنُوا إلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إنَّ في ذلكَ لَآياتٍ لقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.
الخطاب هنا للناس عموما، رجالا، ونساء. وليس للرجال، كما فهم ذلك كثير من المفسدين. فكما خلق اللّه سبحانه للرجال من أنفسهم أزواجا، خلق سبحانه للنساء من أنفسهن أزواجا. فكان الوفاق وكان الائتلاف بين المتزاوجين.
والمراد بقوله سبحانه: {منْ أَنْفُسكُمْ} أي من جنسكم، وطبيعتكم.
وهذا من شأنه أن يؤلف بين الزوجين، وأن يجمع بينهما على الأنس، والمودة. إذ أن الكائن الحي، ينجذب بطبيعته إلى ما يشاكله من الأحياء.
فكل جنس يجتمع إلى جنسه، ويجد الطمأنينة، والأمن، والسكينة في جواره.
سواء في هذا، الإنسان، والطير، والوحش، والذر. حتى النبات. فإنه يزكو، وبنضر، ويزهو في المغارس التي نجمع الجنس منه إلى الجنس.
وفي قوله تعالى: {لتَسْكُنُوا إلَيْها} بيان لهذه النعمة، وكشف عن وجه الحكمة فيها، وهى أنه باجتماع الإنسان إلى الإنسان، والذكر إلى الأنثى، تستريح النفس، وتسكن المشاعر، وتطمئن القلوب. وإنه لا نعمة أجل ولا أعظم من نعمة تفيض على الإنسان الأمن والسكينة.
وفي قوله تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} إشارة إلى أن المودة والرحمة أمران يتولدان من الألفة والسكن، وأنه لولا السكن والائتلاف، ما قامت مودة ورحمة. لهذا جاء النظم القرآنى مفرقا بين الأمرين، فجعل المشاكلة في الطبيعة البشرية بين الناس، ذكورا وإناثا- خلقا، أي في أصل الخلقة، على حين جعل المودة والرحمة، عرضا من أعراض هذه الطبيعة، وثمرة من ثمراتها، فعبر عنها بلفظ الجعل {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}.
وهذا إعجاز من إعجاز القرآن، الذي يتجلى في روعة أسلوبه، وجلال صدقه.
إذ ليس كل لقاء بين طبيعتين متماثلتين يحدث الرحمة والمودة، وإن كان من شأنه أن يجمع، ويقرب. فإن المودة والرحمة ثمرة احتكاك، وتجاوب، بين النفوس، وجهد مبذول، ومعاناة معطاة من كل نفس، وعلى قدر هذا الجهد وتلك المعاناة تكون الثمرة. وما أكثر الأشجار التي لا تعطى ثمرا!! وفي قوله تعالى: {إنَّ في ذلكَ لَآياتٍ لقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} دعوة إلى الزوجين أن يدبرا تفكيرهما إلى هذه الآية من آيات اللّه، وأن يحققا الثمر المرجو منها. فإن لم يتحقق لهما هذا، كان عليهما أن يرجعا إلى نفسهما، وأن يصححا الوضع الذي هما عليه، حتى يحىء الثمر المطلوب من الزواج، وهو السكن، والمودة، والرحمة.
قوله تعالى: {وَمنْ آياته خَلْقُ السَّماوات وَالْأَرْض وَاخْتلافُ أَلْسنَتكُمْ وَأَلْوانكُمْ إنَّ في ذلكَ لَآياتٍ للْعالمينَ}.
فى الجمع بين خلق السموات والأرض، واختلاف الألسنة والألوان، إشارة إلى هذه الظاهرة التي لا يكاد يلتفت إليها الناس، من اختلاف ألسنتهم وألوانهم. إنها- وهى التي لا يكاد يلتفت إليها أحد- لا تقل عن خلق السموات والأرض، وما فيهما من أجرام وعوالم، في الدلالة على قدرة الخالق، وجلاله، وعظمته، وعلمه، وحكمته.
إن كل إنسان من الناس هو عالم قائم بذاته، في ظاهره، وباطنه، جميعا.
ففى كل إنسان آية متفردة من آيات الخلق، وقدرة الخالق. فعلى حين يبدو الناس وكأنهم ثمار شجرة واحدة، إذ هم ثمار مختلفة الطعوم، ولألوان، والأشكال. كل ثمرة لها طعمها، ولونها، وريحها.
إن العين لتأخذ الناس جميعا، وكأنهم كائن واحد. فإذا عاد النظر إليهم، فردا فردا، كان كل واحد كائنا قائما بذاته، بماله من سمات، وخصائص. فلكل إنسان نبرات صوته، ومخارج كلماته، وطبقات أنغامه، التي تميزه عن غيره، فلا تختلط نبرة بنبرة، ولا يشتبه مخرج بمخرج، ولا تتماثل طبقة مع طبقة، وإن بدا في ظاهر الأمر أن هناك تماثلا وتشابها، بين صوت وصوت، ونغم ونغم، فإن الحقيقة غير هذا، حيث توجد فروق دقيقة، وخطوط هندسية غاية في الدقة، تفصل بين صوت وصوت، وتحجز بين نغم، ونغم. وكذلك الشأن في الألوان والأشكال، والصور. إن يد القدرة القادرة المحكمة، قد أقامت كلا منها في موضعه، وجعلت بينها حاجزا، فلا يبغى بعضها على بعض. تماما كما حجزت بين البحرين: {هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائغٌ شَرابُهُ وَهذا ملْحٌ أُجاجٌ} هذا، في ظاهر الإنسان. أماما في باطنه، فالأمر أعجب وأغرب.